آخر الأخبارالرئيسيةدولياوطنيا
أخر الأخبار

المخزن واستراتيجية الهروب إلى الأمام

لماذا تُفبرك الافتتاحيات وتُزج الإمارات؟

Spread the love

ليست الفبركة الإعلامية التي أقدمت عليها أجهزة النظام المغربي، من خلال تلفيق افتتاحية وهمية نُسبت زورًا إلى صحيفة “البيان” الإماراتية، مجرد حادثة عابرة في سياق الصراع اللفظي الدائر في المنطقة المغاربية، بل هي مرآة كاشفة لانحدار مزدوج: انحدار في أدوات الخطاب السياسي المغربي، وانكشاف مريع في بنية النظام الدعائي الذي بات رهينًا لأوهام التضليل وصناعة الانطباع.

لم يكن اختيار “البيان” اعتباطيًا، فهذه الصحيفة الخليجية ذات الوزن الثقيل تمثل في المخيال العربي رمزًا لمؤسسة إعلامية محترفة ومحسوبة على دولة تتسم سياساتها الخارجية بشيء من التوازن والرصانة. استغلال هذا الاسم، ومحاولة توريطه ضمن خطاب عدائي موجّه للجزائر، يكشف نزوعًا مقلقًا لدى المخزن لتوسيع ساحة الاشتباك، لا مع الدولة الجزائرية وحدها، بل مع المنطق نفسه، ومع أخلاقيات التعامل بين الدول ومعايير المهنة الصحفية. فما جرى هو، في عمقه، نوع من السطو الرمزي على منبر إعلامي شقيق، ومحاولة بائسة لتغليفه بمحتوى لا يُشبهه، لا في نبرته، ولا في مساراته التحريرية.

إن جوهر هذا التزوير لا يكمُن فقط في الكذب المطبوع، بل في ما وراء الكذب من نوايا مضطربة واستراتيجيات مأزومة. النظام المغربي، وهو يترنح تحت ضغط الملفات المفتوحة داخليًا وخارجيًا، يبدو وكأنه فقد قدرته على الفعل الواقعي، فلجأ إلى الفعل الافتراضي. فبركة افتتاحية، وإيهام الرأي العام العربي بأن الإمارات – بكل ثقلها – قد تبنّت خطابًا مناهضًا للجزائر، لا يعكسان إلا رغبة دفينة في خلق تحالفات خيالية تعوّض العزلة الحقيقية التي باتت تخنق خيارات الرباط على المسرح الإقليمي.

لقد أظهر المخزن، من خلال هذه العملية، استعداده للتضحية حتى بحلفائه الظاهريين، إذا ما اقتضت مقتضيات الحملات الدعائية ذلك. الإمارات، التي لطالما اتبعت سياسة خارجية متأنية، حُشرت قسرًا في زاوية لم تخترها، وزُج باسمها في سياق لا يخدم مصالحها، بل يسيء إلى علاقاتها مع الجزائر من جهة، ويضعها في مهب تساؤلات حرجة من جهة أخرى. ومن هنا، تنكشف الخلفية الأكثر خطورة في هذه الحادثة: استخدام رمزية الخليج كأداة لتزيين خطاب المخزن، في محاولة لإضفاء الشرعية على مواقف فاقدة للسند الشعبي والديبلوماسي.

لا يمكن فصل هذه الحيلة الإعلامية عن مجمل السياسات التي ينتهجها النظام المغربي في المرحلة الأخيرة، حيث باتت الدعاية تسبق الفعل، ويُؤلّف الحدث قبل أن يُصنَع. نحن أمام منظومة لم تعد تميّز بين الخيال والممكن، وبين الدعاية والسياسة، فصارت تصنع الأكاذيب لا لتقنع بها الخصوم، بل لتخدّر بها الذات.

أما الجزائر، التي بقيت بمنأى عن هذه المهاترات، فقد قابلت هذا التزييف بصمت الواثق، وبرباطة جأش تعكس عمق إدراكها لطبيعة ما يُحاك في الغرف السوداء. الجزائر لا تحتاج إلى افتعال افتتاحيات أو فبركة انطباعات، لأنها تستند إلى شرعية تاريخية، وإلى سياسة خارجية تُبنى على المبادئ لا على المناورات. وهذا هو الفارق الجوهري بين من يكتب من موقع السيادة، ومن يُراكم الأوهام من موقع التبعية للابتزاز الإعلامي والسياسي.

في المحصلة، ما وقع لا يخص الجزائر وحدها، بل يمسّ الجسم الإعلامي العربي بكامله، ويطرح سؤالًا جوهريًا: إلى أي مدى يمكن لأنظمة مأزومة أن تستبيح مهنة الصحافة لتُلبسها أقنعة أجهزتها الأمنية؟ وكيف يمكن تحصين الكلمة من أن تُختطف وتُستعمل كأداة في حروب قذرة لا تعترف لا بالأخلاق، ولا بالحقيقة؟

إن حادثة تزييف افتتاحية “البيان” ليست مجرّد سقطة أخلاقية عابرة، بل هي إعلان إفلاس صريح لنظام لم يعُد يجد في الواقع ما يخدم أجندته، فلجأ إلى صناعة الأكاذيب وارتداء أقنعة الآخرين. وعندما تبلغ دولة هذا الدرك من التزوير، فإنها لا تمس فقط خصومها، بل تعبث بضمير المهنة، وتدوس على شرف الكلمة، وتُعلن، من حيث لا تدري، نهاية قدرتها على الإقناع، وبداية انكشافها التام أمام الشعوب الحرة.

الجزائر، التي اختارت درب السيادة لا التبعية، والمبدأ لا المناورة، لا تُرهبها ألاعيب الفبركة، ولا تُغيّر بوصلتها صرخات الوهم المنبعثة من الغرف المظلمة. لأنها تعرف جيدًا أن الشمس لا تُغطّى ببيان مزوّر، وأن التاريخ لا يُكتب بالحبر المُستعار، بل يُصنع بالمواقف، وبالصمود في وجه من يحاولون اختطاف الحقيقة وتدجينها على مقاس مصالحهم الضيقة.

فليُزيف من شاء ما شاء، فصوت الجزائر الحقّ سيظلّ عصيًّا على التحريف، عابرًا لكل حملات التشويش، ناطقًا باسم الشعوب لا الأنظمة، وباسم المبادئ لا الأوهام.

أنيسة براهنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى