
واقع الشراكة الجزائرية – الأوروبية في ظل تراجع النفوذ الفرنسي
في مدرج الجامعة الجديد، وفي أجواء أكاديمية رصينة، انطلقت فعاليات الملتقى الوطني حول “واقع الشراكة الجزائرية – الأوروبية في ظل تراجع النفوذ الفرنسي”. كان الحضور متميزًا بأساتذة وباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية، جاؤوا ليقدموا قراءاتهم وتحليلاتهم لهذا الملف الشائك الذي لا يزال يثير جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والأكاديمية.
بدأت الجلسة الافتتاحية بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم عزف النشيد الوطني الجزائري، ليأخذ بعدها الأساتذة الكلمة تباعًا. افتتح أ.د. سليمان أعراج، عميد كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الملتقى بكلمة ركّز فيها على أهمية فهم التحولات الراهنة في العلاقات الدولية وتأثيرها على الجزائر، مشيرًا إلى ضرورة تقديم دراسات أكاديمية معمّقة تسهم في صنع القرار الوطني في هذا الشأن.
تلاه أ.د. إسماعيل دبش، مدير مخبر البحوث والدراسات في العلاقات الدولية، الذي أكد أن العلاقات الجزائرية – الأوروبية تمر بمرحلة مفصلية، وأن مراجعة اتفاقيات الشراكة لم تعد خيارًا بل ضرورة لضمان مصالح الجزائر في ظل عالم متغير.
أما د. رضوان بوهيدل، رئيس الملتقى، فقد شدد على أن “تراجع النفوذ الفرنسي في الجزائر لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة خيارات إستراتيجية اتخذتها الجزائر في السنوات الأخيرة، ضمن رؤية تهدف إلى تنويع الشراكات الدولية والحدّ من التبعية للقوى التقليدية”.
وفي ختام الجلسة الافتتاحية، رحّب أ.د. خالد رواسكي، مدير الجامعة، بالحضور وأثنى على الجهود الأكاديمية المبذولة لدراسة هذا الملف الهام، مؤكدًا أن الجامعة تظل فضاءً حرًا للنقاش العلمي الموضوعي حول القضايا الوطنية والدولية.
افتتحت الجلسة الأولى بمداخلة أ.د. رضا شوادرة من جامعة سطيف، الذي قدّم تحليلًا موسعًا حول “الأمن الأورومغاربي في مواجهة التهديدات الأمنية الهجينة”، مشيرًا إلى أن الجزائر تلعب دورًا محوريًا في استقرار المنطقة، ما يجعلها شريكًا أساسيًا في المعادلة الأوروبية الأمنية.
ثم تناول أ.د. محمد هدير من المدرسة الوطنية العليا للصحافة وعلوم الإعلام، موضوع “المنظور الأوروبي لاتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي”، حيث أوضح أن النظرة الأوروبية تجاه الجزائر لم تعد كما كانت قبل عقدين من الزمن، إذ أصبحت الجزائر اليوم قادرة على فرض شروطها، خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية.
من جانبه، قدّم أ.د. جلول العقون من جامعة الجزائر مداخلة بعنوان “الوضع الراهن للعلاقات الجزائرية – الأوروبية كفرصة للاستثمار المباشر”، حيث أبرز أهمية استغلال الجزائر للوضع الحالي لجذب استثمارات أوروبية أكثر نفعًا، بعيدًا عن التبعية الاقتصادية التقليدية.
أما أ.د. عبد القادر شاقوري من جامعة الشلف، فقد طرح سؤالًا جوهريًا في مداخلته حول “الشراكة الجزائرية – الأوروبية في إطار مشروع برشلونة: من المستفيد؟”، مشيرًا إلى أن الاتفاقيات السابقة لم تكن في صالح الجزائر بالشكل الكافي، وهو ما يفرض إعادة النظر في العديد من البنود.
في السياق ذاته، تناول ط.د. حسان مكي من جامعة الجزائر إشكالية “البعد الهوياتي والمصلحة الوطنية في العلاقات الجزائرية – الفرنسية”، متحدثًا عن تحديات الذاكرة والتاريخ، وأثرها في رسم العلاقات المستقبلية بين البلدين.
أما د. أحمد خالدي من جامعة الجلفة، فقد سلط الضوء على “واقع وآفاق العلاقات الطاقوية بين الجزائر وأوروبا”، متخذًا من مشروع TRANSGAZ PIPELINE نموذجًا للفرص الاقتصادية التي يمكن أن تعزز موقع الجزائر في سوق الطاقة الأوروبية.
في ختام الجلسة، تناول ط.د. محمد بن سعدة من جامعة الجزائر إشكالية “الذاكرة الوطنية والصحراء الغربية في سياسات وإستراتيجيات الدولة الجزائرية”، مشيرًا إلى أن قضية الذاكرة تبقى ورقة ضغط تستخدمها بعض الأطراف الأوروبية في التعامل مع الجزائر، وهو ما يستوجب موقفًا وطنيًا موحدًا لحماية المصالح الجزائرية.
في الجلسة الثانية، كانت المداخلات أكثر تركيزًا على الأبعاد المستقبلية للشراكة الجزائرية – الأوروبية. فقد قدمت د. فاطمة وزان من جامعة الجزائر قراءة في “التفاعل الثقافي بين الجزائر وفرنسا: من الإرث الاستعماري إلى الحوار الحضاري”، حيث أكدت أن الجانب الثقافي يظل حاضرًا بقوة في العلاقات الثنائية، رغم التوترات السياسية والاقتصادية.
من جانبه، تحدث أ.د. توفيق بوقاعدة عن “المحددات الجزائرية لمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي”، مبرزًا أن الجزائر تسعى إلى صياغة علاقات أكثر توازنًا بعيدًا عن السيطرة الفرنسية التقليدية.
أما أ.د. عبد اللطيف بوروبي من جامعة قسنطينة، فقد قدّم مداخلة بعنوان “واقع الشراكة الجزائرية – الأوروبية في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي”، مؤكدًا أن الجزائر أصبحت لاعبًا إقليميًا مهمًا، ولم تعد تقبل بالإملاءات الفرنسية في القضايا الإقليمية.
كما أثارت مداخلة د. لزهر ماروك من جامعة الجزائر نقاشًا واسعًا حول “تأثير تقهقر فرنسا على العلاقات الجزائرية – الأوروبية”، حيث بيّن أن القوى الأوروبية الأخرى بدأت تبحث عن شراكة جديدة مع الجزائر، في ظل تراجع الثقة في السياسة الدولية
نحو شراكة أكثر توازنًا
في نهاية الملتقى، خلص الأساتذة المشاركون إلى أن العلاقات الجزائرية – الأوروبية تمر بمرحلة تحول هامة، تتطلب من الجزائر استغلال الفرصة لتعزيز موقعها كفاعل اقتصادي وسياسي رئيسي في المنطقة.
وأجمع المتدخلون على أن الجزائر لم تعد تتعامل مع الاتحاد الأوروبي وفق نفس المعايير السابقة، بل أصبحت تسعى إلى بناء شراكات أكثر عدالة، خاصة مع دول مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، التي باتت تبحث عن استقلالية أكبر في سياساتها تجاه الجزائر بعيدًا عن التأثير الفرنسي.
قبل إسدال الستار، قدّم د. وليد شملال، رئيس اللجنة العلمية للملتقى، قراءة في التوصيات النهائية، تلاها د. رضوان بوهيدل، رئيس الملتقى، الذي أكّد على ضرورة الاستمرار في دراسة هذا الملف بشكل معمّق لمواكبة التحولات الدولية المتسارعة.
وفي الختام، ألقى أ.د. سليمان أعراج، عميد الكلية، الكلمة الختامية، شكر فيها الحضور على تفاعلهم، وأكد على أهمية استمرار البحث الأكاديمي في قضايا الشراكة الجزائرية – الأوروبية لضمان مستقبل أكثر استقلالية وسيادة للجزائر في محيطها الدولي.
كان يومًا أكاديميًا بامتياز، خرج منه الجميع بأسئلة جديدة تستحق البحث، وآفاق واعدة لعلاقات جزائرية – أوروبية قائمة على التوازن والمصالح المشتركة.