الرئيسيةدوليا
أخر الأخبار

عندما يراد تحوير الجغرافيا واشعال الجيوبوليتيكا

المبادرة الأطلسية: مشروع أم مناورة؟

Spread the love

حينما يُراد تغيير الجغرافيا وتشتعل الجيوبوليتيكا
المبادرة الأطلسية: مشروع أم مناورة؟

في مشهد مشبع بالرمزية الجيوسياسية، اجتمع وزراء خارجية مالي وبوركينا فاسو والنيجر في قصر المخزن للملك محمد السادس بالرباط، لا لأخذ صورة تقليدية بريئة ولا لتبادل البروتوكولات، بل لإطلاق مبادرة تهدف إلى ربط دول الساحل الثلاث بمياه المحيط الأطلسي. مشروعٌ بدا في ظاهره تنمويًا، لكنه في العمق يُخفي هندسة جيوسياسية غير بريئة، تفتح الباب لتساؤلات مشروعة حول التوقيت، والأهداف، والطموحات الإقليمية.

المبادرة المخزنية ـ المُسمّاة بـ”المبادرة الأطلسية” ـ تقوم على وعدٍ بمدّ ممر تجاري استراتيجي من باماكو ونيامي وواغادوغو نحو موانئ المغرب الكبرى، بما في ذلك طنجة والدار البيضاء والداخلة. وتروّج الرباط لهذا المشروع باعتباره “مفتاح الحياة” للدول الحبيسة، مُستخدمة خطابًا إنسانيًا جذّابًا، مثلما ورد على لسان أحد ممثليها: “من حق كل دولة أن تصل إلى البحر”. غير أن هذا الخطاب، رغم جاذبيته، لا يخلو من انتقائية تحجب أبعادًا سياسية معقدة.

فالمخزن، الذي لا يربط حدوده بأي من هذه الدول الثلاث، يحتاج لتوسيع نفوذه السياسي والاقتصادي جنوبًا، وهو يعلم أن النفاذ المباشر إلى الساحل الإفريقي لم يعد ممكنًا إلا عبر مشاريع ناعمة تُغلّف بطابع التعاون جنوب-جنوب. ما يبدو كجسر تجاري، قد يتحول إلى نفوذ طويل الأمد، وربما إلى ممر مصالح خارجي يُعيد تدوير النفوذ الفرنسي أو يفتح المجال لتحالفات جديدة على حساب التوازنات التقليدية في المنطقة.

في المقابل، يقف المشروع الجزائري العابر للصحراء كبديل واقعي واستراتيجي. الجزائر، التي ترتبط بحدود مباشرة مع مالي والنيجر، قطعت شوطًا كبيرًا في إنشاء طريق يمتد من الجزائر العاصمة إلى لاغوس النيجيرية مرورًا بنيامي، ويُعد من حيث الجاهزية والبنية التحتية من أضخم المشاريع اللوجيستية في القارة. غير أن الفرق يكمن في التسويق: فالرباط تُجيد استخدام الصورة، والجزائر تفضّل العمل في الظل.

الجزائر، على عكس المغرب، لا تبيع الأوهام. هي لم تُعلن عن مشاريع دون دراسة، ولم توظف قضايا تنموية لأهداف رمزية. على العكس، فقد دعمت دول الساحل لعقود، وقدّمت مساعدات إنسانية، وألغت ديونًا بمليارات الدولارات، وسعت لتعزيز الاستقرار عبر الدبلوماسية لا عبر الهندسة الجغرافية.

إن مشروع “الممر الأطلسي” ليس بلا تحديات: مساراته تمر بمناطق نزاع مزمنة، كأزواد والحدود المالية-البوركينية، ويتطلب تمويلاً هائلًا يتجاوز قدرة الدول المعنية. والأسوأ أن بعض الدول المجاورة، كنيجيريا وساحل العاج، ترى فيه تهديدًا لتوازنها التجاري. فهل هو مشروع تكاملي حقًا، أم مناورة للالتفاف على الأدوار التاريخية للجزائر ونيجيريا في غرب إفريقيا؟

اليوم، لا بدّ من الاعتراف بأن الجيوبوليتيكا لا ترحم الفراغ. فالجزائر التي تتمتع بثقة شعوب الساحل، وشرعية نضالية، وثقل اقتصادي حقيقي، تحتاج إلى تحويل مشاريعها من البُعد الصامت إلى المبادرة الذكية، ومن الانكفاء الإعلامي إلى قيادة سردية تنموية بديلة. فالمعركة لم تعد حول من يبني الطريق، بل من يملك الحق في قيادة المستقبل.

إن الطريق إلى المحيط لا يُقاس بالكيلومترات، بل بالبوصلة الجيوسياسية. والجزائر، إن قررت أن ترفع صوتها وتفرض رؤيتها، تملك من المقومات ما يجعلها الفاعل الحقيقي في غرب إفريقيا، لا فقط المنافس.

ولعل سؤال السائق “إدريسا” من بوركينا فاسو، وهو ينظر إلى شاحنته المتآكلة: “هل يُكمل أحد هذا الطريق معنا؟”، يجد جوابه في الجزائر، التي كانت دومًا مع الشعوب، لا فوقها، وفي الأرض، لا على خرائط وهمية.
وإدريسا، واذا أعاد يوما سؤاله وهو ينظر إلى المحيط على خريطة قديمة : “إذا أعطانا أحدهم طريقًا إلى البحر… علينا أن نسأله: ولمن سيكون البحر؟”…

ا.ب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تبقى الجزائر تنادي بصوت عاليا وتقرر أن ترفع صوتها وتفرض رؤيتها امام الكل وتملك من المقومات ما يجعلها الفاعل الحقيقي في غرب إفريقيا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى