
التعايش في إفريقيا: حكم الماضي وضرورات الحاضر
في كل عام، وتحديدًا في السادس عشر من ماي، يتحد العالم رمزيًا حول مبدأ نبيل: التعايش السلمي. هذا المبدأ الذي أقرّته الأمم المتحدة في القرار 72/130 لعام 2017، يدعو البشرية إلى تجاوز الخلافات، ونبذ الكراهية والتمييز والتعصّب، وبناء مجتمعات يسودها التضامن والانسجام. غير أن هذه المناسبة تمثّل لإفريقيا، بما تحمله من رمزية، فرصة مصيرية للتأمل، وإعادة التعبئة، والانخراط الفعلي في مسار التغيير.
فالواقع الإفريقي اليوم يعجّ بتحديات متشابكة: نزاعات مسلّحة، اضطرابات سياسية، انقسامات عرقية، توترات دينية، تنامي مشاعر الكراهية للأجانب، وتفاقم الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية. ورغم ذلك، يظل هذا القارّة موطنًا لإرث ثريّ من التقاليد التي تحتفي بالسلام والحوار والتضامن. من فلسفة “أوبونتو” في إفريقيا الجنوبية، التي تمجّد الوحدة والتكافل، إلى مجالس الحكماء وأنظمة المشاورة التقليدية، لطالما جسّدت إفريقيا روح التعايش الضارب في عمق التاريخ.
وفي المدن الإفريقية الكبرى، تتجلى احتفالات هذا اليوم بأشكال إبداعية مختلفة: في أبيدجان، يزيّن فنانو الشوارع جدران الأحياء الشعبية برسوم تدعو إلى السلام. وفي واغادوغو، يوزّع شباب من مختلف الديانات وجبات الطعام على المحتاجين. وفي كينشاسا، تبث الإذاعات المجتمعية برامج خاصة عن التسامح والتعايش. أما في الجزائر وتونس، فتجمع الأنشطة الثقافية والرياضية المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بالسكان المحليين والسلطات، في أجواء من التآلف.
لكن خلف هذه المبادرات الرمزية، يطرح هذا اليوم تساؤلات عميقة حول قدرة الدول الإفريقية على صياغة سياسات شاملة، تحتضن جميع المكوّنات الاجتماعية والثقافية والدينية والإثنية. فالسلام لا ينمو في الفراغ، بل يتجذر في مؤسسات عادلة، وحوكمة رشيدة، وضمان حقيقي للحقوق.
وتلعب فئة الشباب الإفريقي دورًا محوريًا في هذا المسار. فهي في آنٍ واحد، ضحية وأداة تغيير، وحاملة لحلول مبتكرة. كثير من الشباب يعبّرون عن رؤاهم عبر الفنون، الإعلام الرقمي، ريادة الأعمال الاجتماعية، والنشاط المدني، من أجل ترسيخ ثقافة تقوم على التعاون والاحترام المتبادل. وتزداد أهمية صوتهم في سياقات تشهد فيها الخطابات السياسية تراجعًا عن أداء دورها التوحيدي.
ولا يمكن الحديث عن التعايش دون التطرّق إلى دور المرأة الإفريقية، الحاضرة في مساعي الوساطة، والتعليم من أجل السلام، والحركات المجتمعية. فهؤلاء النساء، وإن كنّ بعيدات عن الأضواء، يشكّلن حجر الأساس في منع النزاعات وتهدئة التوترات، ونقل قيم الوحدة والتسامح للأجيال الجديدة.
وفي اليوم الدولي للعيش معًا بسلام، لا بد من التذكير بأن السلام لا يُفرض بقرارات، بل يُبنى بالصبر والمثابرة، في المدارس، وفي البيوت، وفي الإعلام، وفي المؤسسات، وفي الشوارع. إنه يتطلب يقظة مستمرة، وصدقًا في الاستماع، وإرادة سياسية لا تلين. وإن إفريقيا، بمزيج شعوبها وعمق صبرها التاريخي، قادرة على أن تكون نموذجًا حيًّا للتعايش الذي يتطلع إليه العالم بأسره.
فالتعايش لا يعني طمس الاختلاف، بل جعله لغة حوار وقوة بناء. ومن هذا الحوار، قد يُصاغ مستقبل القارّة.
كاميليا أ
ترجمة أنيسة ب