محليات
أخر الأخبار

من قلب السهوب إلى العاصمة الممكنة للجزائر الجديدة

الجلفة

Spread the love

من قلب السهوب إلى العاصمة الممكنة للجزائر الجديدة

الجلفة

في وقتٍ تبحث فيه الجزائر عن إعادة توزيع التنمية وتجاوز المركزية المفرطة في العاصمة الحالية، تبرز ولاية الجلفة كخيار استراتيجي يجمع بين الثقل الجغرافي، العمق السكاني، والقدرات الاقتصادية الواعدة. إنها ولاية لا تزال رغم غناها تعاني من الأحكام المسبقة، وتُختزل في صور بالية لا تعكس واقعها المتجدد. لكن الجغرافيا، والديمغرافيا، والتاريخ، كلها تتحدث بلغة مختلفة، بل بلغة المستقبل.

تقع ولاية الجلفة على بعد حوالي 300 كلم جنوب العاصمة الجزائر، في نقطة تقاطع الطرق الرابطة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. تمتد على مساحة تُقدّر بـ 32,256 كلم²، وتُعد بوابة الهضاب العليا نحو الجنوب، وهو ما يجعلها جسرًا حيويًا لربط الشمال الصناعي بالجنوب الطاقوي. وقد تم تدعيم هذه الوضعية بشبكة مواصلات قوية؛ أبرزها مشروع السكة الحديدية الجديد الذي يربط الجلفة بولايات تيسمسيلت، المدية، المسيلة، والأغواط، بطول 321 كلم، ضمن خطة استراتيجية لربط مناطق الإنتاج بموانئ التصدير.

يبلغ عدد سكان الجلفة أكثر من 1.15 مليون نسمة، موزعين على 36 بلدية و12 دائرة. لكن الامتداد الاجتماعي لأبنائها، خاصة من قبائل أولاد نايل، يتجاوز حدود الولاية ليصل إلى ولايات عديدة، مثل الأغواط، بسكرة، المسيلة، تبسة، وحتى الجنوب الغربي، بما يُقدَّر بأكثر من 16 مليون جزائري من أصول نائلية. هذا الامتداد يجعل من الجلفة منطقة جامعة، قادرة على لعب دور سياسي وثقافي موحّد، وهو ما تفتقر إليه كثير من المناطق الأخرى.

في المجال الفلاحي، تُعد الجلفة قطبًا وطنيًا رئيسيًا، فهي تحتل الصدارة في إنتاج البطاطس ما بعد الموسمية، على مساحة تتجاوز 6,000 هكتار، وتُنتج أكثر من 6.5 مليون قنطار سنويًا. وتضم واحدة من أكبر الثروات الحيوانية في البلاد، حيث تتوفر على أكثر من 4.5 مليون رأس غنم، ما يجعلها من أهم روافد الأمن الغذائي الوطني. أما في الجانب الصناعي، فقد شُرع في إنجاز منطقة صناعية جديدة بمنطقة حاسي بحبح، إضافة إلى استثمارات خفيفة في مجالات الصناعات الغذائية والطاقة الشمسية، وهو ما يعكس بداية تحوّل اقتصادي تدريجي يمكن دعمه ليصبح قطبًا وطنيًا.

تحتضن الجلفة جامعة زيان عاشور، التي عرفت توسعًا في عدد الطلبة والتخصصات، حيث تم فتح ملحقة للطب وتخصصات في البيطرة والهندسة. وتعد الجامعة من الفضاءات العلمية الناشئة التي يمكن أن تتحول إلى قطب أكاديمي يخدم كامل المنطقة الوسطى والجنوبية. أما في قطاع الصحة، فقد تم إنجاز مركز لمكافحة السرطان بطاقة 120 سريرًا و3 مسرّعات علاج إشعاعي، وهو مشروع ضخم قلّ نظيره خارج المدن الكبرى. كما يجري العمل على تعزيز خدمات التوليد والجراحة، ضمن خطة لتقليص الضغط على مستشفيات العاصمة.

تاريخ الجلفة مشبع بالمقاومة والكرامة؛ من مقاومات أولاد نايل ضد الاستعمار الفرنسي، إلى دورها الكبير خلال الثورة التحريرية كمنطقة عبور وإمداد. وقد أولى الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة اهتمامًا خاصًا بالولاية، حيث دشن بها مشاريع هامة، وأشار في خطبه أكثر من مرة إلى “أهمية الجزائر العميقة”. كما أن شخصيات سياسية مثل المرحوم العقيد محمد شعباني والرائد لخضر بن طوبال والرائد بن شريف، لطالما تحدثوا عن إمكانيات الجلفة ودورها المفترض في التوازن الوطني.

للأسف، لا تزال بعض التصورات تختزل الجلفة في صورة “زريبة غنم” أو منطقة رعوية فقط، وهو ما يُعد اختزالًا فجًّا لولاية تملك من المقومات ما يؤهلها لتكون مركز ثقل وطني. مثل هذه الصور النمطية تخدم فقط استمرار المركزية، وتُعيق المشاريع الوطنية للتوازن الجهوي.

في المستقبل القريب، تُعد ولاية الجلفة مرشحة للعب دور محوري في خريطة الجزائر الاقتصادية والاجتماعية. إن الإمكانيات الكبرى التي تتمتع بها، سواء من حيث الموقع الجغرافي أو الموارد الطبيعية أو العوامل البشرية، تجعل منها نقطة ارتكاز للتنمية المستدامة. وتوجد العديد من المجالات التي يمكن أن تكون فيها الجلفة مركزًا للازدهار والنمو:

يمكن للجلفة أن تصبح مركزًا رئيسيًا لإنتاج وتصدير المحاصيل الأساسية بفضل الزراعة الذكية وتقنيات الري الحديثة، ما يعزز مكانتها في الأمن الغذائي الوطني. كما أن طاقتها الشمسية الهائلة تفتح أمامها آفاقًا كبيرة للاستثمار في مجال الطاقات المتجددة. ومع تطوير المناطق الصناعية، يمكن للولاية أن تتحول إلى قطب صناعي مهم في الصناعات الغذائية، المعدنية، والطاقة. أما في الجانب السياحي، فإن إرثها الثقافي والتاريخي، خاصة المتعلق بتراث أولاد نايل، يؤهلها لتكون وجهة سياحية متميزة تجمع بين الأصالة والطبيعة. ومع توسع الجامعة وتطوير البحث العلمي، تصبح الجلفة أرضًا خصبة لتكوين الكفاءات والمواهب الوطنية، في خدمة الجزائر الجديدة.

إن الجلفة تمثل اليوم نقطة انطلاق نحو المستقبل، حيث تتوافر لها جميع المقومات اللازمة لتصبح عاصمة اقتصادية وثقافية للجزائر. من خلال الاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وثرواتها الطبيعية، وتاريخها العريق، تملك الجلفة قدرة غير محدودة على الإسهام في بناء جزائر جديدة بعيدة عن المركزية، أكثر توازنًا واستدامة.

إن التحول الذي تشهده الولاية اليوم هو مجرد بداية لمستقبل واعد، حيث يمكن للجلفة أن تلعب دورًا رئيسيًا في التقدم الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. والفرصة سانحة الآن لتطوير كل هذه الإمكانيات من خلال التخطيط الاستراتيجي السليم والاستثمارات المستدامة، مما سيحقق تحولًا حقيقيًا في واقع الجلفة ويضعها في طليعة مدن الجزائر المستقبلية.

الجلفة، التي كانت دائمًا “قلب الصحراء”، باتت اليوم قادرة على أن تكون “عاصمة التنمية الشاملة” في الجزائر، وجسرًا يربط بين شمالها وجنوبها، ويُسهم في تقدمها على جميع الأصعدة.

س. س

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى