
متى يرضى الرئيس تبون على ماكرون؟
الذاكرة التاريخية
تُعَدّ قضية الذاكرة التاريخية إحدى أبرز الملفات التي تُثقِل كاهل العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ استقلال الجزائر عام 1962. وتثقل كاهل ماكرون أكثر.. إذ أنه يدرك أنه لا مناص للعيش الرغيد لفرنسا بدون الجزائر .. وبدون علاقات وطيدة .. إذ يطالب الجزائريون باعتراف رسمي من فرنسا بجرائم الاستعمار.. فيما يسعى الرئيسان عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون إلى معالجة هذا الإرث الاستعماري المعقد.. ورغم محاولات تقارب متعددة.. إلا أن التقدم في ملف الذاكرة يتسم بالبطء والتعقيد.. حيث يبقى مرهونًا بإرادة سياسية حقيقية وإجراءات ملموسة.
إرث الاستعمار: جراح لم تندمل
خلال أكثر من 130 عامًا من الاستعمار الفرنسي (1830-1962).. شهدت الجزائر مظاهر قمع وجرائم جماعية كان لها أثر كبير على الذاكرة الجزائرية. وقد تعرض الجزائريون لانتهاكات جسيمة شملت الإعدام الجماعي.. والنفي، والتعذيب.. والإبادة الثقافية.. وطمس الهوية.. فيما كانت المقاومة الجزائرية تواجه حملات عنيفة لقمع تحركاتها. ورغم مرور عقود على هذه الأحداث.. ما زالت هذه الذاكرة التاريخية تُعد جزءًا مهمًا من الهوّية الجزائرية.. وتُشكل قضية استرجاعها شرطًا أساسيًا لأي تقارب سياسي بين البلدين.
رؤية تبون: العدالة التاريخية كشرط للتقارب
يؤكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون على ضرورة تحقيق “العدالة التاريخية” كخطوة أساسية في تعزيز العلاقات بين الجزائر وفرنسا. وقد أبدى تبون تمسكه بمطلب الاعتراف الرسمي من فرنسا بجرائم الاستعمار كجزء من كرامة الشعب الجزائري وحقه في استعادة ذاكرته الوطنية.. معتبرًا أن هذه الخطوة ليست مجرد مطلب سياسي.. بل قضية تعكس التطلعات الشعبية للجزائريين. ويشدد تبون على أهمية الحصول على تعويض معنوي من فرنسا.. وإن لم يكن بالضرورة تعويضًا ماديًا.. ويدعو إلى بناء علاقة متوازنة تحترم التاريخ وتراعي السيادة الجزائرية.
جهود ماكرون: خطوات رمزية وحذر سياسي
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.. فقد أظهر توجهًا مختلفًا نسبيًا عن أسلافه من الرؤساء الفرنسيين، إذ اعترف بأخطاء فرنسا التاريخية في الجزائر واعتمد سياسة جديدة تعتمد على “الاعتراف دون اعتذار”. ففي عدة مناسبات.. وصف الاستعمار بأنه “جريمة ضد الإنسانية”.. واعتبر أن الاستعمار كان فعلاً مؤلمًا للشعب الجزائري. ومع ذلك، لا تزال هذه الاعترافات رمزية، حيث لم تصل إلى حد تقديم اعتذار رسمي أو تعويض ملموس، وهو ما تراه الجزائر غير كافٍ.
وقد اتخذ ماكرون عدة خطوات إيجابية، مثل إعادة جماجم بعض الشهداء الجزائريين إلى وطنهم، لكنه لا يزال يواجه ضغطًا داخليًا كبيرًا من تيارات سياسية فرنسية تعارض الاعتذار الرسمي. من جانب آخر.. يُعد الحفاظ على التأييد الشعبي والتوازن بين مواقف اليمين الفرنسي التي ترفض الاعتذار واليسار الداعي للاعتراف بالجرائم.. تحديًا لماكرون في دفع هذا الملف إلى الأمام.
التحديات المشتركة
يواجه تبون وماكرون تحديات كبيرة في تجاوز الإرث الاستعماري، حيث تأتي قضايا الذاكرة محاطة بحساسية عالية بين البلدين. ففي الجزائر.. يُعتبر الاعتراف الفرنسي مطلبًا شعبيًا يعكس سيادة البلاد وكرامة شعبها.. بينما في فرنسا.. يبقى الملف خاضعًا للمخاوف السياسية.. إذ يثير الاعتراف بجرائم الاستعمار قلق بعض الفرنسيين من إمكانية تعويض الجزائريين ماديًا.. كما يؤدي إلى انقسام في المجتمع الفرنسي حول السرد التاريخي.
قضايا عالقة تتطلب حلولًا
رغم المبادرات المتعددة، لا يزال هناك العديد من القضايا العالقة التي تتطلب حلولًا ملموسة لطي صفحة الماضي. وأبرزها:
1. طالب تبون باعتراف رسمي بجرائم الاستعمار الفرنسي، ولكن الحكومة الفرنسية تفضل تقديم “إشارات إيجابية” دون تقديم اعتذار صريح.
2. يُعد الأرشيف الاستعماري أحد أكثر القضايا إلحاحًا، حيث ترغب الجزائر في استعادة وثائق تاريخية مهمة تتعلق بمرحلة الاستعمار والمقاومة الوطنية. وفرنسا بحوزتها كل تاريخ الجزائر .. ملايين من الفيديوهات والمخطوطات محجوز عند العجوز فرنسا عنوة رغم أنه يخص الجزائر.
3. نطالب تبون بتعويض معنوي ومادي وبكل أصناف التعويضات الأخرى التي شهدها الزمن وما لم يشهدها.. وهو ما يشمل إعادة الاعتبار لضحايا الاستعمار.. تقديرًا لما عانوه من انتهاكات.. ولما عانت البلاد من تأخر على الأقل 130 عاما.
خطوات نحو المصالحة
قد لا تقتصر المصالحة التاريخية على الاعتراف والاعتذار، بل يمكن أن تشمل أيضًا تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين وزيادة الوعي بأهمية احترام الذاكرة المشتركة. وتلعب فعاليات التبادل الثقافي بين فرنسا والجزائر دورًا إيجابيًا في خلق بيئة تفاعلية تتجاوز الحساسيات التاريخية وتعزز الفهم المتبادل.
يُعتبر تعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي حول فترة الاستعمار وأثرها على المجتمعين خطوة مهمة نحو معالجة جراح الماضي. كما يمكن تنظيم ورشات عمل ومعارض تاريخية تسهم في توعية الأجيال الجديدة بتاريخ العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بهدف تحويل هذا الإرث إلى أساس للتفاهم المتبادل.
نحو مصالحة عادلة ومستدامة
تمثل جهود تبون في معالجة ملف الذاكرة التاريخية خطوة مهمة نحو إعادة بناء العلاقات الجزائرية الفرنسية على أسس من العدالة والتفاهم المشترك. رغم التحديات، فإن الإرادة السياسية لماكرون يمكن أن تشكل أساسًا لتحقيق مصالحة عادلة.. تضمن اعترافًا حقيقيًا بتضحيات الشعب الجزائري وتعزز من فرص التعاون المستقبلي بين البلدين.. ولن نرضى عنك يا ماكرون حتى ولو قدمت طقوس الولاء والطاعة
أنيسة براهنة




