
مانديلا… حين نطق رجلٌ باسم إفريقيا كلها
في العاشر من ماي 1994، لم يكن نيلسون مانديلا يؤدي مجرد قسم رئاسي، بل كان يفتح شقًا في جدار التاريخ، معلنًا بداية زمن جديد. ذلك الصوت الذي دوّى من قصر الاتحاد في بريتوريا لم يكن صوت رجل فحسب، بل كان أنفاس قارة كاملة تُستعاد من ركام الاستعباد، وتتحرر من خريطة الصمت الطويل.
كان مانديلا، وهو أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، يدرك أن معركته ليست محلية ولا لحظة احتفال. لقد حمل في صوته همّ إفريقيا بأكملها، تلك التي تشظّت بفعل الاستعمار، وتمزّقت عبر قرون من الهيمنة والاستغلال. لكنه، بخطابه الهادئ وإيمانه العميق بالمصالحة، كان يخط ملامح مشروع قاري لا يزال في طور التكوين: إفريقيا موحّدة، فخورة بتنوعها، متصالحة مع ماضيها، ومستعدة لكتابة مستقبلها بيد أبنائها.
مانديلا لم يكن بان-إفريقيًا بالتصريحات، بل بالممارسة والتفكير الاستراتيجي. كان يعلم أن تحرر شعبه في جنوب إفريقيا لا يمكن فصله عن تحرر القارة بأكملها من التبعية والهيمنة والتفكك. وقد فهم مبكرًا أن الاستعمار لم يسرق الأرض فقط، بل صادر أيضًا الروح الجماعية التي كانت توحّد أبناء القارة من المحيط إلى المحيط.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على ذلك القسم، تواجه إفريقيا معارك جديدة أكثر تعقيدًا: استنزاف اقتصادي ممنهج، توترات داخلية مزمنة، ومخططات جيواستراتيجية تسعى لإعادة تشكيل القرار الإفريقي من خارج القارة. وفي خضم هذه التحديات، يبدو أن الحلم الإفريقي بحاجة إلى يقظة جديدة، لا تعتمد على رموز الماضي فقط، بل على مشروع مستقبلي تتبناه الأجيال الجديدة بوعي ومسؤولية.
فبان-إفريقية اليوم لم تعد شعارًا طوباوياً، بل ضرورة وجودية. وهي لن تتحقق في المؤتمرات وحدها، بل في الوعي الجمعي لأفارقة قرروا أن يتحدثوا بلغة واحدة: لغة الكرامة، والسيادة، والانتماء المشترك. في الشباب الذين يرفضون الانجرار نحو صراعات الهويات الضيقة، في النساء اللواتي يصعدن إلى الصفوف الأمامية، في الإعلام الذي يختار قول الحقيقة، لا ما يُملى عليه من مراكز النفوذ.
في يوم مانديلا، علينا أن نُعيد الإنصات لصوته. لا بوصفه زعيمًا جنوب إفريقي فقط، بل كصوتٍ تحدث، يومًا ما، باسم قارة بأكملها كانت تبحث عن نبضها الحقيقي.
أنيسة براهنة