
بعد ستة أشهر من التوقيف القسري، استأنفت قناة “جوليبا تي في” بثّها مساء أمس … في خطوة طال انتظارها بعد قرار تعليقها من قبل السلطة العليا للاتصال (HAC) منذ نوفمبر 2024، على خلفية بثّ نقاش اعتُبر “حساسًا”. غير أن هذا “العودة” تطرح تساؤلات جوهرية: هل تمثّل فعلًا انتصارًا لحرية الصحافة في مالي، أم أنها مجرد هدنة عابرة في مسار سلطوي متصاعد؟
توقيف القناة جاء عقب بثّ برنامج عبّر فيه مشاركون عن شكوكهم حيال صحة “انقلاب مُجهَض” في بوركينا فاسو، وهي مسألة شديدة الحساسية في سياق الساحل المتأزم أمنيًا. القرار جاء مفاجئًا وقاطعًا، دون إجراءات قانونية واضحة، ما اعتبره كثيرون عقوبة مفرطة، وأثار موجة انتقادات محلية وإقليمية من المدافعين عن حرية التعبير.
طوال فترة التوقيف، لم تُفعّل آليات الاستئناف، ولم تُعرض القضية على هيئات مستقلة. وأضحت السلطة العليا للاتصال، التي يُفترض أن تكون جهة تنظيم مستقلة، أداةً تنفيذية في يد السلطة، ضاربة عرض الحائط بأبسط المبادئ الديمقراطية. أما الشهر الإضافي الذي استغرقته القناة قبل العودة إلى البث، فلم يكن بلا دلالة: كان بمثابة تحضير احترازي وتحصين ضد أي كمين مؤسساتي جديد.
ورغم إعلانها عن “طموحات متجددة”، تُطرح تساؤلات جادة حول الهامش الفعلي الذي يمكن أن تتحرّك فيه القناة، في ظل بيئة سياسية متصلبة. فمنذ تولي العسكريين الحكم عام 2021، تزايدت القيود على الإعلام: توقيف إذاعات، ترحيل صحفيين أجانب، واستدعاء ومضايقة صحفيين محليين.
عودة “جوليبا تي في” لا يمكن أن تحجب واقعًا قاتمًا لإعلام يعيش تحت طائلة الخنق والتوجّس. فباسم “الأمن القومي”، تُجرَّم الأسئلة، ويُحوَّل التحقيق الصحفي إلى مخاطرة. ومع أن المنطقة تعاني من اضطرابات سياسية وتهديدات أمنية وتضليل إعلامي ممنهج، إلا أن الصحافة المستقلة تُعدّ حصنًا ضروريًا لا عبئًا ينبغي التخلص منه.
إن الترحيب بعودة القناة واجب، لكن الاكتفاء به خطأ. فحرية الصحافة لا تعني فقط القدرة على البث، بل تعني حرية التساؤل، والشك، والنقل دون خوف. وطالما بقيت الهيئات التنظيمية رهينة السلطة التنفيذية، والصحافة المستقلة تحت التهديد، فإن مالي لا يمكنها الادّعاء بوجود تعددية حقيقية، ولا مسار ديمقراطي فعلي.




