
حين تنطق الإنسانية في وجه القتلة ويصمت أهل الديار..
فرانشيسكا ألبانيزي
بقلم: أنيسة براهنة
في زمنٍ انقلبت فيه القيم وتبدّلت المعايير، وأظلمت فيه الضمائر، وباتت فيه الحدود بين الصمت والتواطؤ باهتة، وتعفّنت فيه قاعات الأمم بالخذلان.. حين خرس الأقوياء وسقطت الأقنعة، خرج صوتٌ مختلف، نقيٌ وجريء، من حيث لا يُتوقع. لم ينبثق من عاصمة عربية، ولا من منبرٍ إسلامي، بل من امرأة أوروبية، محامية إيطالية تُدعى فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. في مارس 2024، وقفت أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وقالتها بلا مواربة: “ما يحدث في غزة هو جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان تنفذها إسرائيل على مرأى ومسمع من العالم.” حيث كانت تصرخ باسم الإنسانية.. بينما كان صراخ الأطفال الفلسطينيين يُدفن تحت الركام. وحدها تقريبًا، وسط عاصفة المصالح والرياء الدولي، وقفت بشجاعة لتقول للعالم: هنا تُرتكب جريمة إبادة، هنا يُدفن حق الحياة تحت أقدام المحتلين، بينما يلوذ العرب والمسلمون بالصمت، أو ما هو أسوأ.. التبرير.
مارس 2024 كان شهرًا أسود على الضمير العالمي، لكنه كان أيضًا لحظة سطوع أخلاقي نادرة. ألبانيزي قدّمت تقريرها المزلزل بعنوان “تشريح إبادة جماعية”، بلغة قانونية تقطر صدقًا وغضبًا، اتهمت فيه إسرائيل مباشرة بارتكاب جرائم قتل عمد، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي، وفرض ظروف معيشية تقود إلى الفناء الجماعي للفلسطينيين. لم تستخدم الكلمات لتخفيف الفظائع، بل جعلت منها سكاكين تُشرّح الحقيقة.. كانت صرختها استثناءً نادرًا. لم تتحدث باسم أمة ولا دين، بل باسم الضمير الإنساني. وفي قاعات الأمم المتحدة المترعة بالنفاق، نطقت وحدها بالحق حين صمت كثيرون، وقدّمت للعالم شهادة دامغة على الجريمة، في وجه الصمت والتواطؤ، وعلى مرأى من عيون قررت ألّا ترى.
لم تكن هذه الصرخة إلا بداية مواجهة مريرة بين الضمير الإنساني، ممثلًا في تلك المرأة، وبين آلة القتل والتبرير والتطبيع، ممثلة في تحالفات المصالح والخرس العربي والدولي. لم تمرّ أيام كثيرة على كلمتها، حتى صبّت إسرائيل مزيدًا من حممها على قطاع غزة، فازداد عدد القتلى، وامتلأت السماء بالدخان، والأرض بالدماء، فيما اختار العالم الرسمي أن يواصل صمته المشين.
لم تلجأ فرانشيسكا ألبانيزي إلى المجاز أو التزويق في تقريرها، بل واجهت العالم بالحقيقة كما هي.. أرقام دامية، وشهادات مرعبة، وواقع لم يعد يحتمل التجاهل. كشفت، بلغة القانون والأخلاق، أن أكثر من ثلاثين ألف مدني فلسطيني قُتلوا، بينهم آلاف الأطفال والنساء، وأن الأنقاض تبتلع الأحياء في صمت قاتل، بينما يذوب الجرحى ألمًا دون دواء أو مأوى أو أمل.
وثقت ألبانيزي القتل المتعمد، والإضرار الجسدي والنفسي الجسيم، وفرض ظروف معيشية لا تؤدي إلا إلى الفناء، لتؤكد وقوع ثلاث من الجرائم المحددة في اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وصفت بالتفصيل كيف تم محو أحياء بأكملها من الوجود، وكيف انتُشل الأطفال جثثًا من تحت الركام، وكيف تحول البشر إلى أشلاء بلا ملامح. واعتبرت أن سياسة إسرائيل ليست فقط قتلًا، بل “تمويهًا إنسانيًا” متعمدًا، تجعل كل فلسطيني هدفًا مشروعًا لرصاصة أو صاروخ.
في ذات التقرير الجريء، الذي اعتُبر الأقوى من نوعه منذ عقود، دعت ألبانيزي إلى وقف فوري لتصدير الأسلحة إلى المعتدي، وإرسال قوات دولية لحماية من تبقّى، ودعم وكالة الأونروا قبل أن تختنق ماليًا، وقطع كل أشكال التعاون مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. لم تتحدث بلغة دبلوماسية مراوغة، بل بلغة قانونية حاسمة لا تعرف المساومة، وبضمير إنساني يعلو فوق الحسابات السياسية. هذا التقرير لم يكن جداول وأرقامًا فقهية باردة، بل شهادة دامغة تنطق بدماء الضحايا، وتروي فصول المأساة من قلب الجريمة. كان دعوة صارخة إلى الضمير العالمي ليصحو، ولو للحظة، قبل أن تُمحى غزة من الخارطة، ويُدفن العدل مع أطفالها تحت الركام.
… وبعد مرور ثلاثة عشر شهرًا على تلك الصرخة الأممية، يعيد المشهد الدموي نفسه في ذات الشهر، وكأن آلة القتل لا تعبأ بالتقارير، ولا تستمع لصوت القانون أو الضمير، حيث استيقظ العالم ليلة أمس مجددًا على مجازر في رفح وغزة، جثث تحت الأنقاض، وحرائق تلتهم ما تبقى من الأنقاض، والغرب يكتفي بالمراقبة والتحليل، فيما تتكرر الكلمات الباردة: “ندعو إلى ضبط النفس”.
حين تنطق الإنسانية في وجه القتلة ويصمت أهل الديار ..
وفي الوقت الذي كانت فيه أصوات كثيرة، خاصة في العالم العربي والإسلامي، تلوذ بالصمت أو تصدر بيانات باهتة لا تتجاوز عتبة “القلق” وأدعية لا تتعدى أسقف البنيات.. كانت فرانشيسكا تواجه حملة شرسة. اتهمتها السلطات الإسرائيلية بمعاداة السامية، وحرّكت ضدها لوبيات إعلامية ضخمة، ومنعتها من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكنها لم تتراجع. بل مضت تقول في تحدٍ غير مسبوق: “نتنياهو يمارس سياسات لا تختلف عن فظائع القرن الماضي. غزة لا تحتاج تعاطفًا، بل وقفة حقيقية ضد الإبادة”. لم تلجأ فرانشيسكا ألبانيزي إلى المجاز أو التزويق، بل واجهت العالم بالحقيقة كما هي: أرقام دامية، وشهادات مرعبة، وواقع لم يعد يحتمل التجاهل. وثقت ألبانيزي القتل المتعمد، والإضرار الجسدي والنفسي الجسيم، وفرض ظروف معيشية لا تؤدي إلا إلى الفناء، لتؤكد وقوع ثلاث من الجرائم المحددة في اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وصفت بالتفصيل كيف تم محو أحياء بأكملها من الوجود، وكيف انتُشل الأطفال جثثًا من تحت الركام، وكيف تحول البشر إلى أشلاء بلا ملامح. واعتبرت أن سياسة إسرائيل ليست فقط قتلًا، بل “تمويهًا إنسانيًا” متعمدًا، تجعل كل فلسطيني هدفًا مشروعًا لرصاصة أو صاروخ.
أما على الجانب العربي، فقد اختار البعض لغة البرود المخزي. ظهر مستشار رئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، ليقول إنه “يتفهم احتياجات إسرائيل الأمنية”، كأن دماء غزة ماء رخيص لا يستحق أن يخضب الألسنة. منعت بعض العواصم المظاهرات، كمصر التي اعتقلت متظاهرين خرجوا يهتفون لغزة عند أبواب الجامعات والمساجد. في دول عربية أخرى، تم التضييق على وسائل الإعلام، وجرى التعامل مع التعاطف مع غزة كأنه جريمة أمنية. أما في أوروبا، فقد وصل الأمر إلى طرد طلاب جامعات واعتقال أساتذة جامعيون ونشطاء في لندن وباريس وبرلين فقط لأنهم رفعوا علم فلسطين أو كتبوا “أنقذوا غزة”. تسارعت خطوات التطبيع كطعنة غادرة في خاصرة الأمة، وكأن المأساة لا تعنيهم، وكأن أطفال غزة ليسوا من جلدتنا.
في المقابل، شهدت شوارع نيويورك ومدريد وكيب تاون وشيكاغو مظاهرات حاشدة، لم تكن دائمًا من المسلمين أو العرب، بل من نشطاء حقوقيين ويهود تقدميين ومسيحيين يساريين وطلاب جامعات رفضوا منطق الكيل بمكيالين. هؤلاء أخرجوا الحقيقة من قبضة التضليل الإعلامي، بينما العالم الرسمي يدفن رأسه في الرمال.
تزداد قسوة المشهد عندما ندرك أن فرانشيسكا لم تكتفِ بالإدانة، بل قدمت خريطة طريق ملموسة: قوات حماية دولية لغزة، دعم عاجل لوكالة الأونروا، تعليق العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وتفعيل آليات المحكمة الجنائية الدولية. في زمن فقدت فيه الأمم المتحدة فاعليتها، وصمت فيه مجلس الأمن، وخذلت فيه حتى منظمة الصليب الأحمر السكان المدنيين، كانت ألبانيزي آخر الأصوات الأممية التي تقول: “كفى”.
اليوم، وبينما تغرق غزة تحت الأنقاض، يتكفل التاريخ بفرز الأسماء: من وقف مع الدماء، ومن تواطأ بالصمت. وسيكتب أن فرانشيسكا ألبانيزي كانت واحدة من الأصوات النادرة التي ارتفعت حين خرس الجميع. ستتذكرها غزة كما تتذكر أبناءها الذين سقطوا بلا ذنب، وسيظل اسمها يلمع في سجل الكرامة الإنسانية، في وقت تلاشى فيه كثيرون تحت ركام المصالح.
غزة لا تحتاج خطبًا.. بل تحتاج قلوبًا وأيديًا تمتد لها. وفرانشيسكا، رغم بعدها الجغرافي والعرقي والديني، كانت أقرب إلى نبضها من كثيرين ممن يزعمون القرب والولاء. ويبقى السؤال المرير : هل سيسكت الضمير العربي والإسلامي إلى الأبد، أم أن صرخة هذه المرأة ستوقظ شيئًا في نفوسٍ نامت طويلًا؟
ويبقى السؤال الأمرّ الذي يطفو مع كل مشهد دموي جديد هو: “هل سيُوصل نهر الدّم الجاري في غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة، “سفينة السامية المعادية والغرب” إلى برّ النجاة، أم إلى محكمة الشعوب وساحات العار الأبدي؟”
والجواب، وإن تأخر.. والجواب وإن لم أرغب أن أدونه .. كتبته الأقدار بدلا عني على جدران التاريخ بمدادٍ من نار:
لن تصل تلك السفينة إلى برّ النجاة، لأنها تبحر فوق أجساد الأطفال، وتحمل على سطحها أكاذيب الحقوق وخرائط الزيف. إنها سفينة مسكونة بلعنة الأبرياء، تطاردها أرواح الشهداء كريحٍ سوداء لا تهدأ، وتمزق أشرعتها كلما حاولت النجاة.
وما محكمة الشعوب إلا نبوءة قادمة، ستفتح أبوابها ذات فجر، وتحاكم الصمت والخيانة كما تحاكم القتلة. فكما سقط طغاة الأمس، سيتداعى هيكل الكذب الحديث، وستكون غزة – الجرح والراية – هي الشاهد والحكم.
اللهم هون على غزة عذابها. وافرج غمها. وصبر اهلها حسبنا الله ونعم الوكيل
ارواح الشهداء لا تموت بل تظل في قلوبنا وتدفعنا للنضال من أجل الحق والعدالة.
غزة الراية والجرح ستبقى رمزا للمقاومة والصمود وستكون شاهدة على الظلم الذي تعرضت له
فلسطين تظل في قلوبنا وتدفعنا للنضال من أجل الحق والعدالة ارواح الشهداء ستبقى شاهدة على تاريخ فلسطين