
في زمن يسابق فيه العالم نفسه لطيّ صفحات ماضيه الاستعماري، ينبعث من تراب السنغال صوت لم يخفت منذ ثمانين عاماً، صوتٌ يطالب بجثمان… لا أكثر. إنها مأساة ثيـاروي، الجرح المفتوح في ذاكرة إفريقيا، والذي يعود إلى واجهة المشهد القضائي الفرنسي، لا بصيحات الاحتجاج أو العرائض الرمزية، بل بشكوى قانونية دقيقة: تهمة “إخفاء جثة” ضد الدولة الفرنسية.
إنها ليست رواية من أدب ما بعد الاستعمار، بل قصة حقيقية، يُعيد فصولها ابن أحد الضحايا، إبراهيم سنغور، الذي قرر أن يطرق أبواب العدالة باسم والده مباب سنغور، الذي قُتل رمياً بالرصاص في صباح 1 ديسمبر 1944، لأنّه طالب، فقط، بحقه.
ثيـاروي: المجزرة التي دفنتها فرنسا في رمال النسيان
في ذلك اليوم، سال الدم الأفريقي في معسكر ثيـاروي، حيث اجتمع مئات الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية، أولئك الذين قاتلوا تحت الراية الفرنسية، ليُقابلوا بوحشيةٍ مروّعة بعدما طالبوا بمستحقاتهم المالية. ما حدث لم يكن شجارًا ولا تمرّدًا… كان إعداما جماعيا.
لكنّ ما تبعه كان أبشع من القتل: الصمت. التعتيم. الطمس. إلى اليوم، لا أحد يعرف بدقة عدد القتلى، ولا أين وُوريت أجسادهم. بين من يقول إنهم 35، ومن يؤكد أنهم تجاوزوا الـ300، يبقى الرقم الأصعب هو: صفر… صفر قبر معروف، صفر اعتراف قانوني، وصفر عدالة.
حين يصبح القانون صوتًا للذاكرة
التحرك الجديد بقيادة محامي العائلة الأستاذ مباي ديينغ يُعد سابقة قانونية؛ إذ استند إلى مادة جنائية فرنسية تُجرّم “إخفاء الجثث” باعتباره عائقًا للعدالة ومنعًا للدفن الكريم. وفي ذلك تجاوز للخطاب العاطفي إلى ساحة القانون، حيث لا مجال للتأويلات.
الهدف واضح: كشف الحقيقة، رفع الغطاء عن قبور غير معلومة، وردّ الكرامة لعائلات لا تزال تنتظر جثمانًا… أو حتى شاهدة قبر.
الذاكرة الإفريقية ليست رفاهًا تاريخيًا
ليست هذه المعركة شأناً عائليًا ولا قضية تخص السنغال وحده. ثيـاروي صدى لقارة بأكملها، لجنود من مالي، وبنين، والنيجر، والتشاد، والكونغو، وبوركينا فاسو… جنود قاتلوا باسم فرنسا، ثم دُفنوا خارج التاريخ.
إنّ هذه الشكوى هي إعلان إفريقي صريح بأننا لن نرضى بأن تُمحى تضحياتنا بممحاة بيروقراطية، ولا بأن تُختزل ذاكرتنا في اعتذارات باهتة من رؤساءٍ لم يحضروا المجازر، لكنهم يرثون صمتها.
العدالة ليست انتقامًا… بل دفنًا كريمًا
ما يطالب به إبراهيم سنغور ليس تعويضًا ماليًا، ولا ثأرًا. إنه يطلب شيئًا واحدًا: أن يعرف أين دُفن والده، وأن يُعاد إليه – بعد كل هذه السنوات-جثمان الإنسان الذي أنجبه، لا مجرد وسام على قبرٍ مفقود.
ثيـاروي ليست مجرد قصة تاريخية تُروى في كتب المدارس، بل ملف مفتوح على طاولة الإنسانية. وإذا كانت فرنسا اليوم مطالبة بتطهير سجلها من دماء الماضي، فلن تبدأ العملية من الخطابات… بل من الجثث.
جثث ما زالت هناك، في أرض مجهولة، تنتظر من يعيد لها اسمها وكرامتها.
فهل ننتظر قرناً آخر لتُدفن الضحية كما يجب؟ أم نبدأ الآن في كتابة العدالة بالحبر الذي تستحقه الذاكرة؟
نُشرت هذه المقالة بمناسبة إعادة فتح ملف مجزرة ثيـاروي أمام القضاء الفرنسي، بدعوى إخفاء جثث الضحايا، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ ما بعد الاستعمار الفرنسي.
بقلم : الزئبق الافريقي