آخر الأخباردولياوطنيا
أخر الأخبار

بين مراجعة الشراكة وتغيير قواعد اللعبة

الجزائر والاتحاد الأوروبي على عتبة مرحلة جديدة

Spread the love

بين مراجعة الشراكة وتغيير قواعد اللعبة: الجزائر والاتحاد الأوروبي على عتبة مرحلة جديدة

في تصريح حمل دلالات عميقة تتجاوز حدود المجاملة الدبلوماسية، أعلن سفير الاتحاد الأوروبي لدى الجزائر، دييغو ميادو دي بينوسا، أن أوروبا “مستعدة تمامًا لمراجعة جميع العلاقات مع الجزائر”، مؤكدًا أن الاتحاد الأوروبي يظل منفتحًا على كل المقترحات القادمة من الشركاء الجزائريين. وقد رأت فيه الأوساط السياسية والاقتصادية بالجزائر مؤشرًا على بداية تحوّل جدي في نظرة بروكسل إلى بلد أصبح يتموقع تدريجيًا كفاعل إقليمي مستقل، بعيدًا عن الوصاية الفرنسية التقليدية.

من المهم التذكير بأن اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي وُقع سنة 2002 ودخل حيّز التنفيذ عام 2005، باعتباره بوابة نحو اندماج تدريجي في الاقتصاد العالمي، وتعزيزًا للعلاقات مع الشريك الأوروبي الأول تجاريًا للجزائر. غير أن هذا الاتفاق لم يثمر ما كانت تطمح إليه الجزائر، إذ بقيت الصادرات الجزائرية نحو أوروبا رهينة المحروقات، في حين عجز الطرف الأوروبي عن الوفاء بوعوده المتعلقة بنقل التكنولوجيا ودعم القدرات الإنتاجية المحلية. على امتداد أكثر من عقد ونصف، ظل الميزان التجاري مائلاً لصالح الطرف الأوروبي، ما حوّل الاتفاق إلى عبء اقتصادي أكثر منه فرصة تنموية. هذا ما دفع الحكومة الجزائرية، بدءًا من 2020، إلى مراجعة مضمونه بشكل نقدي وصريح، تمهيدًا لإعادة التفاوض عليه وفق قواعد جديدة أكثر عدالة.

تحوّل لهجة الخطاب الأوروبي لا يمكن عزله عن السياق الجيوسياسي المتغير في المنطقة. فالسنوات الأخيرة شهدت تراجعًا متسارعًا في النفوذ الفرنسي داخل القارة الإفريقية، خصوصًا في منطقة الساحل، حيث تواجه باريس رفضًا متزايدًا من الشعوب والنخب المحلية. في المقابل، أخذت الجزائر زمام المبادرة على الصعيدين الإفريقي والمتوسطي، عبر أدوار دبلوماسية وأمنية متقدمة، سواء في حل النزاعات الإقليمية أو في الحفاظ على الاستقرار الداخلي للدول المجاورة. وترافق هذا الدور السياسي مع تنامٍ في الأهمية الاقتصادية للجزائر، خصوصًا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وما تبعها من أزمة طاقة غير مسبوقة دفعت الأوروبيين للبحث عن موردين موثوقين للغاز، وكان للجزائر أن أصبحت أحد أبرز البدائل الاستراتيجية لروسيا.

وقد منح هذا التطور الجزائر قوة تفاوضية جديدة، استخدمتها بحذر وذكاء في إدارة علاقاتها مع شركائها الغربيين. فبعيدًا عن منطق التبعية، بدأت الجزائر تفرض شروطها في الاتفاقات الطاقوية والتجارية، مؤكدة على ضرورة احترام سيادتها وعدم القبول بأي نوع من الضغوط السياسية أو الاقتصادية. لقد أصبح جليًا أن الجزائر تسير وفق رؤية متكاملة تهدف إلى التحرر التدريجي من الارتهان لاقتصاد ريعي، وتنويع شراكاتها الخارجية بما يتماشى مع أهدافها السيادية.

هذا ما يفسر لجوء الاتحاد الأوروبي إلى خطاب جديد، يتسم بالليونة والانفتاح، بعد أن أدرك أن استمرار تجاهل المطالب الجزائرية قد يفتح الباب أمام تعميق العلاقات مع قوى أخرى كالصين وروسيا وتركيا. فالجزائر لم تعد محصورة في الفلك الأوروبي كما في السابق، بل باتت تملك بدائل متعددة، من ضمنها شراكات جنوب-جنوب، ومشاريع كبرى في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، فضلاً عن اتفاقيات تبادل حر جديدة مع دول إفريقية وأسيوية. هذه التحولات جعلت من مراجعة اتفاق الشراكة الأوروبي – الجزائري ضرورة ملحّة، ليس فقط لخدمة مصالح الجزائر، بل أيضًا لضمان بقاء أوروبا لاعبًا حاضرًا في شمال إفريقيا.

لكن هل تملك أوروبا القدرة الحقيقية على مراجعة الاتفاق بروح شراكة متوازنة؟ ذلك يتوقف على استعداد بروكسل للانفصال عن الموروث الكولونيالي في نظرتها إلى الجنوب، وتبني نموذج جديد من العلاقات قائم على الندية والاحترام المتبادل. إن بناء علاقة استراتيجية جديدة مع الجزائر يفترض الاعتراف بدورها المحوري في استقرار المتوسط والساحل، والتعاطي مع مطالبها الاقتصادية بجدية، خاصة في ما يتعلق بدعم الصناعة المحلية، وتسهيل دخول المنتجات الجزائرية إلى الأسواق الأوروبية، ووقف الاستنزاف غير المتكافئ للثروات الوطنية.

في خضم هذه المعطيات، قد تمثل تصريحات السفير الأوروبي بالجزائر لحظة فاصلة في العلاقات الثنائية. فإما أن تكون بداية مسار تصحيحي فعلي يعيد بناء الثقة والمصالح، أو أن تبقى مجرد محاولة لكسب الوقت في مواجهة منافسة دولية محتدمة على النفوذ في المنطقة. الجزائر من جهتها، باتت تعرف تمامًا موقعها، وتدرك أنها لم تعد الطرف الأضعف، بل شريك لا غنى عنه في معادلة الطاقة والأمن الإقليمي.

إن لحظة مراجعة العلاقات مع أوروبا، كما تبدو في خطاب دييغو ميادو، ليست لحظة تقنية أو اقتصادية فقط، بل هي لحظة سياسية بامتياز، تفرض على الطرف الأوروبي تغييرًا عميقًا في الذهنية والأسلوب، إذا ما أراد الحفاظ على موقعه في فضاء لم يعد يقبل بالعلاقات غير المتكافئة. وحدها الأفعال القادمة ستحدد إن كانت هذه التصريحات خطوة نحو عهد جديد، أم محاولة متأخرة لمجاراة الجزائر التي فتحت صفحة جديدة في تاريخها، ووضعت على الطاولة شروط شراكة لا تقبل المساومة.

أنيسة براهنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى