
في خضم النقاشات المتصاعدة حول مدى التزام الجزائر بالاتفاقيات الدولية، يبرز سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن لهذه الاتفاقيات أن تظلّ إطارًا للتعاون دون أن تتحوّل إلى قيد يحدّ من السيادة الوطنية؟ فالجزائر، بتاريخها النضالي وبدماء شهدائها، لم تُبنَ لتكون دولة تابعة، وإنما لتكون كيانًا مستقلًا قادرًا على صياغة قراراته بعيدًا عن أي وصاية.
إنّ الضغوط التي تمارسها بعض الأطراف باسم “حقوق الإنسان” أو “حرية المعتقد” أو حتى “المساواة المطلقة” بين الجنسين، لا تخلو من خلفيات سياسية واقتصادية واضحة، إذ غالبًا ما تتحوّل إلى أدوات ضغط لتمرير أجندات تتنافى مع الخصوصية الوطنية والثقافية. فالجزائر ليست ضد التعايش ولا ضد الانفتاح، لكنها ترفض أن يُستخدم شعار الحقوق ذريعةً لفرض منظومة قيمية غريبة عنها.
لقد أظهرت التجربة أنّ كثيرًا من الدول التي خضعت لإملاءات المؤسسات الدولية، انتهى بها الأمر إلى تفكيك بنيتها الداخلية، وتآكل مقوماتها الاجتماعية، وانفجار تناقضاتها الثقافية. والجزائر، التي واجهت الاستعمار ودفعت ثمنًا غاليًا من دماء أبنائها، لا يمكن أن تسمح بإعادة إنتاج أشكال جديدة من الهيمنة تحت غطاء “المواثيق الدولية”.
إنّ الحفاظ على سيادة الجزائر لا يعني الانغلاق ولا العزلة، بل يعني التفاعل الذكي والمتوازن مع العالم، على قاعدة الندية والاحترام المتبادل. فالتنمية الحقيقية والمستدامة لا تتحقق بالتنازل عن الهوية ولا بالتخلي عن المرجعيات، بل بترسيخ قيم الاستقلالية الوطنية، وتطوير أدوات داخلية قادرة على التكيّف مع التحولات العالمية من دون أن تفقد أصالتها.
إنّ الجزائر، وهي تقف على عتبة مرحلة دقيقة من تاريخها، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالحفاظ على سيادتها التشريعية والثقافية، وعدم الرضوخ لأي إملاءات خارجية تمسّ ثوابتها. فالاتفاقيات الدولية، مهما كان بريقها، لا ينبغي أن تتحوّل إلى أدوات لابتزاز الشعوب أو فرض نماذج جاهزة عليها. لقد أثبتت الجزائر مرارًا أنّها ليست دولة تابعة ولا خاضعة، وأنّها قادرة على صياغة موقعها وفق ما يخدم مصلحتها العليا ويحمي هويتها الوطنية. ولعلّ أعظم درس نستخلصه اليوم، هو أن لا تنمية حقيقية ولا مساواة عادلة يمكن أن تقوم على حساب الاستقلالية، لأنّ التنازل عن السيادة هو الزلزال الحقيقي الذي يجب أن نخافه قبل أي شيء آخر.
الزئبق الحائر




