
منذ عقود، والجزائر تواجه ضغوطًا دولية متزايدة من أجل “الانسجام” مع ما يسمى بالمعايير الكونية لحقوق المرأة، وعلى رأسها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). هذه الاتفاقية، ورغم ما تحمله من عناوين براقة، تثير جدلاً واسعًا في المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تكتفي بالدعوة إلى المساواة في الحقوق والواجبات، بل تتعدى ذلك إلى المطالبة بإلغاء الفوارق الطبيعية بين الجنسين، وإعادة تعريف الأسرة بعيدًا عن ثوابتها الشرعية.
الجزائر، مثل غيرها من الدول ذات المرجعية الإسلامية، سجّلت تحفظات على بعض المواد التي تتعارض بوضوح مع الشريعة الإسلامية، خاصة ما يتعلق بالأحوال الشخصية، الزواج، الميراث، والولاية. غير أن هذه التحفظات ظلّت هدفًا للانتقاد من المنظمات الدولية، التي تمارس ضغطًا مستمرًا لإلغائها، في سياق ما يمكن وصفه بـ”المطابقة القسرية” مع نماذج ثقافية لا تنسجم مع الخصوصيات الوطنية.
إن الدعوات إلى رفع التحفظات على سيداو لا يمكن قراءتها بمعزل عن محاولات أوسع لإعادة تشكيل البنى الاجتماعية وفق مقاييس غريبة عن واقعنا. فالأسرة الجزائرية ليست مجرد مؤسسة اجتماعية، بل هي قلعة الهوية والدين واللغة والثقافة، وأي مساس بها هو مساس مباشر بمستقبل المجتمع.
المفارقة أن الجزائر، رغم التزامها بحماية حقوق المرأة عبر دستورها وقوانينها الوطنية، تُطالَب اليوم بأن تتنازل عن سيادتها التشريعية لصالح اتفاقية دولية صيغت بروح لا تراعي التنوع الثقافي ولا تحترم الخصوصيات الدينية. فهل المطلوب أن تتخلى الجزائر عن مرجعيتها الحضارية لتنال شهادة “حسن سلوك” من الخارج؟
إن الرهان الحقيقي ليس في رفع التحفظات ولا في الانصهار في قوالب غريبة، بل في إيجاد معادلة وطنية متوازنة: معادلة تحفظ للمرأة كامل حقوقها، وتصون في الوقت نفسه ثوابت المجتمع ومقدساته. فالمجتمع الذي يفرّط في أسرته، يفرّط في ذاته.
الزئبق الحائر



