آخر الأخبار
أخر الأخبار

أمستردام، مدينة الذكريات التي لا تُنسى.

Spread the love

أمستردام، مدينة الذكريات التي لا تُنسى.

عاد حميد من رحلة قام بها إلى هولندا، وتحديدًا إلى أمستردام. في شبابه، كان دائمًا يسمع عن الأبقار، والخراف، وزهور التوليب في هذا البلد المنبسط. سرعان ما أدرك أن أمستردام تنبض بالحياة. منذ نزوله من الحافلة، أصبح شبه فاقد للصوت. عيناه المتسعتان تعكسان الإعجاب. دون أن يطرح على نفسه أي سؤال، بدأ يدور حول نفسه كما لو كان يبحث عن شخص أو مكان أو موقع يعرفه من قبل. في الحقيقة، لم يكن الأمر كذلك. إنه الأثر الغريب لمدينة جميلة بشكل لا يُصدق. المعمار يلتزم بالتقاليد، في حين أن الواجب، في ترك بصمة في عالم مضطرب، يأخذ شكلًا إنسانيًا. فهل طموح كل فرد هو أن يعيش ليغذي ذاكرته بالذكريات؟ وهل هذه الحاجة كافية لبناء بلد وتاريخه؟

في هذه المدينة، يُعاش الماضي في الحاضر، ما دامت الدورات تتوالى، وهمها الوحيد هو بناء مجتمع مزدهر يُولد فيه الناس ويموتون في آنٍ واحد. دورة طبيعية، فالميلاد حدث كما الموت، لكن إذا كانت الولادة تغني المشهد، فإن الموت لا يُضعفه. هذه الرؤية هي لشعب حي، لمجتمع دائم التغير، ولسكان متكيفين مع متطلبات الطبيعة.

الحديث عن الذكريات خيانة للذات. العيش منها كذب على النفس. لا يمكن لأي إنسان أن يتفاخر بتحدي الزمن، فضلًا عن إيقافه عند أجمل لحظاته. لا يمكن وصف اللطف. ولا يُمكن فرض حب الآخر. هذا من خصائص الإنسان، لكن الحروب الدموية للأسف تنفي ذلك.

الحياد يميز المجتمع. تعيش ثقافات متعددة فيه، وهي ما يعطي للمدينة سحرها. وحدها الثقافة تكفي لتجميل مشهد مدينة جذابة أصلًا. أحيانًا، يتمسك حميد بفكرة أن لا شعب يجب أن يعيش في خوف. إن الأمر الإلهي موجود لكنه غير ظاهر. الفيضانات، الحروب، الزلازل، الأعاصير وعمليات القتل الجماعي لا يجب أن تشكل عائقًا أمام الحياة. انطلاقًا من هذا، ينبغي عيش كل يوم بكل تفاصيله.

واصل حميد التجول بلا هدف. ساقته قدماه بعيدًا عن محطة الحافلات. طوال الطريق، كان المنظر يأسره. ولأول مرة، يُقدّر بحق معنى “يجب أن تُعاش الحياة بالكامل” رغم تعقيدها. وإذا كان لها ثقل من حيث المعنى، فإن مداها أبعد من الإدراك العادي. مزيج الفرح والسعادة والحزن والألم يُشرب بإرادة وقبول. جلس حميد على مقعد كما لو أنه وُلد للتو. طرد كل الأفكار السوداء التي كانت تسكن جمجمته منذ طفولته. ومنذ تلك اللحظة، قرر أن يعيش ببساطة. وحتى لو بدا الأمر خيالًا، عاد إلى عبارته التي نطق بها في مدرج جامعي: الحاضر يُعاش، الماضي يُنسى، والمستقبل يُبنى. تحولت أفكاره إلى قوة دافعة قادرة على نقله إلى حيث يشاء.

فيما حوله، لم يرَ إلا ابتسامات ولطف. مفتون وساحر، كان ينتظر شيئًا. أشياء كثيرة تدور حوله. قنوات، مواقع رائعة، قوارب سياحية ودراجات كلها تشهد على تراث بُني بعقلانية. الثقافة تشكل عماد الممارسات المجتمعية العريقة التي تحولت إلى أسلوب حياة.

خلال إقامته، جال في عدة أحياء دون أن يشعر بأي تعب. من حين لآخر، يتوقف ليوثق اللحظات التي مضت. كانت شرفات المقاهي تعج بأناس مفعمين بالفرح، انضم إليهم بكل سرور.

خلال إحدى توقفاته، لفت نظره ابتسامات امرأة آسرة. فقرر أن يخلد هذه اللحظة إلى الأبد بكتابة:

أنا سعيد لأنني استطعت،
في قمة يأسي،
أن أحافظ على وعيي وأرتشف،
وجهها الملائكي النابض،
بابتسامات لا تنطفئ وأحاديث رفيعة،
ضحكات بالكاد مسموعة وانطلاقات رشيقة،
تُظهر شخصيتها وحكمتها الفطرية،
وأتذوقها في ركني، ومع ذلك،
كان يمكنني أن أنظر إليها دون أن أراها،
وأن أراها دون أن أميزها،
وكان من الممكن أن أغرق في السوداوية،
في هذا المكان المليء بالبهجة.

شرب ما تبقى من كوكتيل الفواكه، طوى الورقة ووضعها في الجيب الداخلي لسترته، وبدأ يفكر في الاكتشافات القادمة. غادر هذا المكان الدافئ، واستأنف سيره دون أن يحدد وجهة معينة. أحيانًا، تعود إلى ذاكرته قراءاته في كتب تاريخ هذا البلد وفي الأدلة السياحية التي تتحدث عن الحشيش المسموح به محليًا، وهذه المادة الممنوعة في بلده تدفعه للتفكير.

فوق رأسه، كانت الشمس حاضرة مثل فرحة العيش رغم القلق الذي تزرعه وسائل الإعلام. كان حميد يحدق في بعض المعالم أو واجهات المباني المزخرفة وفق الصيحات. صادف مجموعة من السياح المطمئنين. لم تكن تظهر على وجوههم أي علامات قلق. قال في نفسه: لماذا لا أتبع نفس النهج؟ ففي معتقداته القديمة، يُقال إن كل ما يحدث هو مكتوب. فلمَ القلق إذًا، مادامت الأمور تحدث كما ينبغي. في أعماقه، خاطبته صوت: افعل مثل كل هؤلاء الباحثين عن الاكتشافات، واستمتع بكل لحظة.

نسيم لطيف داعب وجهه الذي صار أكثر استرخاء. كان يحمل كلمات حكيمة، بعكس وسائل الإعلام التي تفرض نفسها في المجتمعات كفزاعة لتخويف شعوب محكوم عليها بالكراهية. نظر يسارًا ثم يمينًا. السياح والسكان المحليون يتبادلون الاحترام والمحبة. لم يجد أي أثر للخوف الذي كان يلفّه منذ يومين. قرر إذًا التخلص من هذا العبء الذي أصبح أكثر إعاقة من اللغة. ارتخت ملامحه وشعر براحة عميقة. أن يعيش يومين دون أي حادث زاد من قناعته بضرورة التحرر من هذا الرهاب المرهق.

منجرفًا مع جمعٍ مبتهج، وجد نفسه أمام درج يقود إلى الأرصفة. كان قارب سياحي هناك، كما لو أنه في انتظاره. كان اليوم جميلًا لطرد كل مخاوف بلد يقع تحت مستوى سطح البحر. السدود، المصنفة تراثًا عالميًا من طرف اليونسكو، تشهد على عبقرية الإنسان. لا معنى للمجازفة في مجتمع واجه الزمن وصمد.

السكينة التي يتحلى بها السكان تثير الإعجاب. الثقة الموضوعة في القادة تُعيد التفكير في مفاهيم الواجبات والمسؤوليات. إدخال ورقة الاقتراع في صندوق ليس عملًا عاديًا. بل هو اختيار مدروس ينبع من التزام المرشحين بقيادة الشأن العام بنجاح.

فاجأته أمطار خفيفة. من حوله، لم ينزعج السياح، بل أعجبوا أكثر بجمال المدينة وتنظيمها، بدل القلق من بضع قطرات ماء على وجوه تنيرها الابتسامات. هم يقدمون، في تلك اللحظة، لذة الحياة.

وإن كانت اللغة عائقًا، فإن متعة الانضمام إلى مجموعة من السياح تمحوها. إنها أمستردام، بسهولها، وتوليبها، ومعمارها الغريب. حيث تتعدد الرومانسيات وتتلاقى النظرات.

بقلم. حميد بلحبيب
ترجمة. ب. أ

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مما استخلصته من المقال ان أمستردام مدينة ساحرة تجمع بين الجمال المعماري والتنوع الثقافي، وتجربة فريدة تستحق الاستكشاف هذا اولا
    ثانيا رحلة حميد إلى أمستردام كانت محطة فارقة في حياته حيث اكتشف معاني جديدة للحياة والحرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى