
موقف تبون من الأزمة الليبية
الدور الجزائري في حل النزاع
منذ اندلاع الأزمة الليبية في عام 2011، شهدت ليبيا حالة من عدم الاستقرار السياسي والعسكري، مع استمرار النزاع بين الأطراف المختلفة على السلطة. وقد انعكست هذه الأزمة بشكل مباشر على دول الجوار، خاصة الجزائر التي تعد ليبيا جارتها الغربية. ومع تصاعد الصراع وظهور تحديات جديدة مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية، أصبحت الجزائر أمام ضرورة اتخاذ موقف حاسم في محاولة لحل الأزمة الليبية والحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة.
منذ وصوله إلى سدة الحكم في ديسمبر 2019، أعاد الرئيس عبد المجيد تبون تأكيد موقف الجزائر الثابت تجاه الأزمة الليبية، والذي يقوم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مع العمل على تعزيز الحلول السلمية والنقاشات السياسية بين الأطراف الليبية. في هذا المقال، سنتناول موقف تبون من الأزمة الليبية، وسبل تعزيز الدور الجزائري في هذا الملف الشائك.
1. الأزمة الليبية: خلفية تاريخية
مرت ليبيا بتطورات سياسية وعسكرية متسارعة بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي في 2011. وفي حين كان العالم يأمل في أن يؤدي هذا التغيير إلى انتقال ديمقراطي، سرعان ما تحولت ليبيا إلى ساحة صراع بين جماعات مسلحة وفصائل سياسية متناحرة. ومنذ ذلك الحين، عاشت ليبيا في حالة من الفوضى، مما جعلها بيئة خصبة لنمو التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وكذلك للاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية.
واستمر النزاع في ليبيا بين حكومة الوفاق الوطني (المعترف بها دوليًا) بقيادة فايز السراج، والمشير خليفة حفتر الذي يقود “الجيش الوطني الليبي” (الذي يسيطر على شرق ليبيا). مع مرور الوقت، تطورت الأزمة إلى تدخلات إقليمية ودولية متعددة، حيث تدعم بعض القوى الخارجية أحد الأطراف الليبية ضد الآخر، مما يزيد من تعقيد الحلول.
2. موقف الجزائر من الأزمة الليبية تحت قيادة تبون
منذ توليه الرئاسة، أبدى الرئيس عبد المجيد تبون موقفًا واضحًا تجاه الأزمة الليبية، مؤكدًا على عدة نقاط أساسية:
الحياد الإيجابي والرفض للتدخل العسكري:
تبون شدد على أن الجزائر ترفض أي تدخل خارجي في الشؤون الليبية، واعتبرت أن الحل يجب أن يكون ليبيًا-ليبيًا. هذا الموقف يتماشى مع السياسة الخارجية الجزائرية التي ترفض التدخلات العسكرية في الدول المجاورة، إذ سبق للجزائر أن رفضت التدخلات العسكرية في كل من مالي وسوريا. وأكد تبون مرارًا على أن الجزائر تؤمن بأن الحلول السلمية هي الوحيدة القادرة على استعادة الأمن والاستقرار في ليبيا.
دعم الحوار الوطني:
دعت الجزائر منذ البداية إلى ضرورة تشكيل حكومة توافقية تضم جميع الأطراف الليبية دون استثناء، مع دعم جميع المبادرات التي تهدف إلى تسوية النزاع عن طريق الحوار الشامل. الجزائر كانت قد استضافت في الماضي عدة لقاءات بين الأطراف الليبية، وسعت دائمًا إلى تقديم نفسها كوسيط محايد يمكن أن يساعد في تقارب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين.
رفض تقسيم ليبيا:
كان من الواضح أن تبون أكد مرارًا أن الجزائر ترفض أي شكل من أشكال تقسيم ليبيا، وأن هذا الخيار ليس مطروحًا على الطاولة. الجزائر تدرك أن أي حل لا يقوم على وحدة التراب الليبي سيكون له تداعيات كارثية على الأمن الإقليمي، بما في ذلك تأثيرات سلبية على الاستقرار في الجزائر.
3. الجهود الجزائرية لحل الأزمة الليبية
في إطار سياسة تبون، بذلت الجزائر جهودًا حثيثة لتحقيق التسوية السلمية في ليبيا، وسعت إلى لعب دور محوري في جهود الوساطة بين الأطراف الليبية والدول المؤثرة في الأزمة.
الدور الدبلوماسي النشط:
اللقاءات الثنائية: قامت الجزائر بعقد عدة لقاءات مع الأطراف الليبية، حيث استضافت في عام 2020 اجتماعات بين ممثلين عن حكومة الوفاق الوطني وحفتر، برعاية الأمم المتحدة. الجزائر أكدت على ضرورة استمرار الحوار والتفاوض بين الأطراف المختلفة من أجل التوصل إلى حل دائم.
دعم مبادرة الأمم المتحدة: الجزائر دعمت بشكل قوي مبادرة الأمم المتحدة للوساطة في ليبيا، وقدمت الدعم السياسي والتقني لهذه الجهود. في الوقت نفسه، أكدت الجزائر على أهمية الحفاظ على سيادة ليبيا واستقلالها في جميع مراحل التفاوض.
التعاون مع جيران ليبيا:
كانت الجزائر شريكًا رئيسيًا في المحادثات الثلاثية مع تونس ومصر بشأن الأزمة الليبية. في عام 2020، اجتمع وزراء خارجية الجزائر وتونس ومصر في الجزائر للاتفاق على رؤية مشتركة لحل النزاع الليبي، والتي تشمل دعم المبادرات السياسية والحفاظ على وحدة ليبيا.
الدور الأمني: مواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية:
مكافحة الإرهاب: الجزائر تعتبر أن أحد أبرز التحديات في ليبيا هو تفشي الجماعات الإرهابية. لذا، تسعى الجزائر من خلال قنواتها الدبلوماسية إلى حث الأطراف الليبية على العمل معًا لمكافحة الإرهاب ومنع انتقال التنظيمات الإرهابية إلى دول الجوار.
الهجرة غير الشرعية: الجزائر تدرك أن استمرار النزاع في ليبيا يشكل تهديدًا كبيرًا للأمن الإقليمي، حيث يسهم في تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر حدودها. ولهذا، كانت الجزائر تطالب بضرورة إيجاد حلول تنموية في ليبيا والمناطق المحيطة بها للحد من الهجرة غير الشرعية.
4. التحديات التي تواجه الجزائر في الملف الليبي
رغم دورها الفاعل في البحث عن حل سياسي للأزمة، تواجه الجزائر عدة تحديات في الملف الليبي:
تعدد الأطراف الدولية والإقليمية:
الوجود المكثف للقوى الأجنبية في ليبيا، سواء كانت دولًا إقليمية أو دولًا غربية، جعل الحل السياسي أكثر تعقيدًا. الجزائر تسعى لتحقيق توازن بين مصالح هذه الأطراف المختلفة دون التسبب في الإضرار بمصالحها الخاصة أو مصالح الجيران.
النفوذ الدولي على الأطراف الليبية:
الجزائر تسعى لتحقيق الحل السلمي، لكن الأطراف الليبية نفسها قد تكون تحت تأثير الدعم العسكري والسياسي الخارجي. بينما تبقى الجزائر تلعب دور الوسيط المحايد، فإن تأثير الأطراف الدولية قد يكون أكبر في بعض الأحيان.
الوضع الداخلي في الجزائر:
تظل الوضعية الداخلية في الجزائر، خاصةً الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تشكل تحديًا في إدارة السياسة الخارجية. تزايد الضغط الداخلي قد يؤثر أحيانًا على قدرة الحكومة الجزائرية على التركيز الكامل على القضايا الإقليمية والدولية.
موقف الرئيس عبد المجيد تبون من الأزمة الليبية يعكس التزام الجزائر بالمساهمة الفاعلة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. من خلال دعم الحوار السياسي والوساطة بين الأطراف الليبية، والالتزام بعدم التدخل العسكري، تسعى الجزائر إلى الحفاظ على وحدة ليبيا ومنع تقسيمها. ومع ذلك، تظل هناك تحديات كبيرة في ظل التدخلات الخارجية وتعدد الأطراف الفاعلة في النزاع الليبي. إن نجاح الجزائر في لعب دور الوسيط المحايد يعتمد على قدرتها على الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف، وكذلك على تحقيق استقرار داخلي يمكنها من توظيفه في خدمة السلام الإقليمي.
أنيسة براهنة