
هل القانون مشروع؟
الغاية من العلم هو الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا، أي معرفة أسبابها وعللها، ولهذا فلا شك من أن هدف وغاية كل عالم في بحثه العلمي هو بلوغ القانون واكتشافه الذي يحكم هذه الظواهر ويفسرها، وإذا كانت الغاية منه هو الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، فإن نتائج المحصل عليها جراء الدراسة التجريبية، قد شكل واحدث ثورة بين الفلاسفة ومحورا للبحث والنقاش في الأوساط الفكرية والعلمية، وبذلك ظهر اتجاهان متعاكسان إذ يؤكد الأول منها مطلقيه نتائج الدراسة التجريبية ودقتها (الحتمية)، بينما ذهب أنصار الاتجاه الأخر (الثاني) إلى نقيض ذلك تماما، حيث يصرون على نسبية واحتمالية تلك النتائج ولا وجود للدقة فيها.
هل القانون مشروع؟
وبما أن الشقين قد تجادلا فيحق لنا أن نتساءل بكون هل الحقيقة التجريبية نسبية أم مطلقة؟ أو بصيغة أخرى هل القانون مشروع؟
يرى أنصار الموقف الأول، الفلاسفة العقليون وعلماء الفيزياء الكلاسيكية، وعلى رأسهم كانط أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة ومطلقيه وهي ثابتة في كل زمان ومكان، بحيث أنها تستند إلى مبادئ عقلية و هي مبدأ الحتمية،
إذ يرى ايمانويل كانط أن الطبيعة ثابتة والظواهر الطبيعية ثابتة والقانون الذي يحكمها أيضا ثابت والعالم الذي عندما يستخدم المنهج التجريبي يكتشف قانون الظاهرة لا يتغير بالتغير الزمان والمكان لأنه قائم على مبدأ السببية العام ويقول: (إن الاستقراء يقوم على مبدأ السببية العام) وكل ما يجري في الأرض خاضع لنظام ميكانيكي وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها فقد اعتبر قانون نيوتن، أن نظم الكون حتمي وشبيه بالساعة في الدقة والآلية، ولهذا يقول: (يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل).
أي إذا علمنا موقع جسم وسرعته وطبيعة حركته أمكن التنبؤ بمساره، ومثال على ذلك، غليان الماء عند c100. حيث تعرف درجة غليان الماء بأنها درجة الحرارة التي يتساوى عندها ضغط بخار الماء السائل مع الضغط المحيط به، إذ تبلغ درجته 100درجة مئوية وهذه النقطة التي يبدأ عندها الماء بالغليان والتحول من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، ويتجمد بالضرورة في c0 حيث يتمدد فيه الماء مما يجعله أقل كثافة لأن جزيئاته، تتراص في بناء بلوري متأثرة بقطبيها، ونترك في هذا البناء البلوري فراغات فيما بينها، مملوءة بالهواء مشكلا مياه متجمدة، ولا وجود للصدفة في هذا.
واعتبر بوانكاريه أن الحتمية مبدأ لا يمكن الاستغناء عنه في أي تفكير علمي أو غيره فهو يشبه إلى حد كبير البديهيات الموجودة في الرياضيات، أي أنه باستطاعة العقل الإحاطة بجميع ظواهر الكون.
مثال على ذلك حركة الكواكب و حتمية مسارها في علم الفلك كالتنبؤ بظاهرة الكسوف، حيث عندما تتراصف الشمس والقمر والأرض على خط مستقيم، ويكون القمر في المنتصف أي في وقت ولادة القمر الجديد عندما يكون في طور المحاق مطلع الشهر القمري بحيث يلقي القمر ظله على الأرض في هذه الحالة إذا كنا في مكان ملائم لمشاهدة الكسوف سنرى قرص القمر المظلم يعبر قرص الشمس المضيء.
ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الموقف نجد أيضا مبدأ التعميم، حيث اكتشف العلماء ( غوبلو) قوانين لازالت ثابتة وهذا بأخذ عينة أو جزء من شيء ثم أعممه على الكل، إذ يرى أن الظاهرة الكونية محكومة بعلاقة السببية والحتمية معا بحيث أنه إذا تكررت نفس الشروط فإنها تحدث دوما نفس النتائج فلا مجال في الطبيعة لمبدأ الصدفة والعشوائية والاحتمال، مما يستلزم أن القوانين العلمية صادقة، ولهذا يقول أن: (العالم متسق تجري ظواهره على نظام ثابت)، مثل أخذ جزء أو عينة صغيرة من الحديد نجد أنه يتمدد بفعل الحرارة العالية وبهذا نعممه على كل المعادن كالفضة والنحاس والذهب وأنها تتمدد بفعل الحرارة.
وأيضا لابلاس يرى أن وجود الحتمية يمكن إثباته من خلال القانون العلمي لأن كل قانون ما هو إلا إعاقة ضرورية بين ظواهر طبيعية ومثال على ذلك نذكر أن التيار الكهربائي يؤدي إلى انحراف الإبرة المغناطيسية فيقول :(يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة، وهي سبب في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة)، ولهذا مبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي، ورفضه إلغاء للعقل والعلم معا.
ويضيف إلى ذلك كلود برنار أن مبدأ الحتمية ليست خاصة بالعلوم الفيزيائية فقط وحدها بل سارية لمفعول حتى على علوم الأحياء، وأفضل مثال على ذلك ما درسناه في مادة العلوم حول المناعة وأنه دخول كائن غريب أي اللاذات إلى الجسم أي العضوية والذات، فإنه يستدعي استجابة فورية من جهاز المناعة من اللمفاويات البائية LBوالتائيةLT وغيرها.
صحيح ما ذهب إله أنصار الفيزياء الكلاسيكية، لكن مع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته كيف نفسر تهديم الفيزياء القديمة ووضع مكانها واستبدالها بالفيزياء المعاصرة، مع اصطدام الحتمية ببعض الصعوبات، لميتمكن من إيجاد حل لها كقياس حركة الإلكترون، مما يعني أن نتائج العلوم التجريبية نسبية .
يرى أنصار الموقف الثاني، علماء الفيزياء المعاصرة وعلى رأسهم هايزنبورغ وأينشتاين، أن النتائج التجريبية غير مطلقة وحقائقها ليست يقينية بل تبقى نسبية تقريبية فقط. وما أمدته أبحاث قام بها علماء الفيزياء والكيمياء المعاصر على الأجسام الدقيقة أو ما يسمى بالميكروفيزيائية، بحيث توصل هايزنبورغ عام 1926، إلى أن قياس حركة وسرعة الإلكترون أمر صعب للغاية واكتفى فقط بحسابه على شكل احتمالات.
حيث أدت الأبحاث التي قام على حركة وسرعة الإلكترون إل الإيمان بوجود اللاحتمية في الظواهر الكونية، لهذا يقول:(إن الضبط الحتمي لا يصح في فيزياء الذرة)، أي الحركة تتغير من إلكترون للآخر، ولم يتم التنبؤ بسلوك الإلكترون، ويرى ديراك أن الدفاع عن الحتمية قد بات مستحيلا، حيث أن الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء والكيمياء على الأجسام الدقيقة قادتهم إلى ما يسمى بأزمة الفيزياء المعاصر ويقصد بهذه الأزمة أن العلماء الذين درسوا العالم الأصغر أي الظواهر المتناهية في الصغر… وصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع اللاحتمية وليس للحتمية، ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر مثل سقوط المطر التي تتميز بأنها احتمالية تقريبية، بمجرد هبوب الريح يتغير الجو، ولهذا يقول :(لا يمكن التنبؤ إلا على هيئة ما يسمى احتمالات) .
ونفس الظواهر مع أدينجتون، إذ يرى أن العلماء عندما يدرسون ظاهرة فإن هذا يؤدي إلى عدم اليقين، كظاهرة الزلزال، إذ لا يمكن التنبؤ بحدوثها، وأبسط مثال على ذلك الزلزال الذي حدث في تركيا، وسوريا، إذ لو تمكن من تنبأ حدوثه بالفعل لاتخذوا على الأقل احتياطاتهم والإجراءات اللازمة للحيطة والحذر من العوائق والمشاكل التي أنتجتها وخلقتها الآن من عدة ضحايا وموتى، فيقول :(إن الإيمان بوجود قوانين صارمة في الطبيعة فهو معرفة ساذجة).
وبالتالي لوجود قوانين صارمة في الطبيعة فهذا يعني اللاحتمية في الكون، وبالإضافة اعتقاد نافيل فإنه يرى تطبيق مبدأ الحتمية في المادة الحية أمر متعذر لأن نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج، مثال على ذلك تجربة الفئران، يعني أن ما نصل إليه من نتائج علمية تبقى نسبية لا يمكن تعميمها .
ونكتشف من هذا خطأ غوبلو حول التعميم، وأن التعميم لا يمكن، كدراسة عينة من مياه البحر لكن لا يمكن تعميمها على كل مياه البحرية لقوله تعالى:(مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) من سورة الرحمان، وبهذا يقول أينشتاين: (كل شيء نسبي حتى النسبية فهي نسبية)، ويقول كذلك باشلاف: (الحقيقة هي خطأ مصحح باستمرار)، مثال التطور الهائل في مجال تقنية يثبت أن القوانين العلمية نسبية، وكثيرا ما أخطأ العلماء في إنزال المركبات الفضائية على سطح القمر بعشرات الأمتار عن الحدود نظريا فقط، فيقول أيضا :(إن العلم الحديث معرفة في حقيقته معرفة تقريبية) أي الدقة المحققة المضبوطة غير موجودة .
صحيح ما ذهب إليه أنصار الفيزياء المعاصرة، القائلين ان نتائج العلوم التجريبية نسبية متغيرة، لكن رغم أن هذه النتائج و البحوث العلمية أثبتت أع العالم الميكرفيزياء يخضع للاحتمية فإن ذلك مرتبط بمستوى التقنية المستعملة لحد الآن .
من خلال ما سبق يمكننا القول أن العلم المعاصر ضروري ويظهر ذلك في القانون العلمي، ويكون عقل الإنسان أو العقل البشري نسبي، فيبقى الحديث عن المطلقية واليقين في العلم، حلم لكل العلوم والعلماء، ونتائج العلم بيما فيها العلوم التجريبية تبقى نسبية وبذلك تطور العلم دائما يطمح للأفضل.
وختاما نستنتج أن حلم كل عالم في مسيرة بحثه بلوغ نتائج العلوم التجريبية، بنسبيتها ومطلقيتها وأمل كل العلوم كذلك، مما يفسر ويوضح لنا بقاء المجال مفتوح، أي أن الفيزياء المعاصرة لا تهدم مبدأ الحتمية وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي حسب العال لانجفان .
ريمة جريدي